كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقصة بناء سليمان إياه مفصلة في سفر الملوك الأول من أسفار التوراة.
وقد انتابه التخريب ثلاث مرات:
أولاها: حين خربه بختَنَصّر ملكُ بابل سنة 578 قبل المسيح ثم جدده اليهود تحت حكم الفُرس.
الثانية: خربه الرومان في مدة طيطوس بعد حروب طويلة بينه وبين اليهود وأعيد بناؤه، فأكمل تخريبَه أدريانوس سنة 135 للمسيح وعفى آثاره فلم تبق منه إلا أطلال.
الثالثة لما تنصرت الملكة هيلانة أم الأنبراطور قسطنطين ملككِ الروم بيزنطة وصارت متصلبة في النصرانية، وأشرب قلبُها بُغْض اليهود بما تعتقده من قتلهم المسيح كان مما اعتدت عليه حين زارت أورشليم أن أمرت بتعفية أطلال هيكل سليمان وأن ينقل ما بقي من الأساطين ونحوها فتبني بها كنيسة على قبر المسيح المزعوم عندهم في موضع توسموا أن يكون هو موضع القبر والمؤرخون من النصارى يشكون في كون ذلك المكان هو المكان الذي يُدَّعَى أن المسيح دفن فيه وأن تسميها كنيسة القيامة، وأمَرَت بأن يجعل موضعُ المسجد الأقصى مرمَى أزبال البلد وقُماماته فصار موضعُ الصخرة مَزْبلة تراكمت عليها الأزبال فغطتها وانحدرت على درجها.
ولما فتح المسلمون بقية أرض الشام في زمن عمر وجاء عمر بن الخطاب ليشهد فتح مدينة إيلياء وهي المعروفة من قبلُ أورشليم وصارت تسمى إيلياء بكسر الهمزة وكسر اللام وكذلك كان اسمها المعروف عند العرب عندما فتح المسلمون فلسطين.
وإيلياء اسم نبيء من بني إسرائيل كان في أوائل القرن التاسع قبل المسيح.
قال الفرزدق:
وبيتان بيتُ الله نحن ولاته ** وبيتٌ بأعلى إيلياء مشرَّف

وانعقد الصلح بين عُمر وأهل تلك المدينة وهم نصارى.
قال عمر لبطريق لهم اسمه صفرونيوس دُلني على مسجد داود فانطلق به حتى انتهى إلى مكان الباب وقد انحدر الزبل على دَرَج الباب فتجشم عمر حتى دخَل ونظر فقال: الله أكبر، هذا والذي نفسي بيده مسجدُ داوود الذي أخبرنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أُسري به إليه.
ثم أخذ عمر والمسلمون يكنسون الزبل عن الصخرة حتى ظهرت كلها، ومضى عمر إلى جهة محراب داوود فصلى فيه، ثم ارتحل من بلد القدس إلى فلسطين.
ولم يَبن هنالك مسجدًا إلى أن كان في زمن عبد الملك بن مروان أمر بابتداء بناء القبة على الصخرة وعمارة المسجد الأقصى.
ووكل على بنائها رَجاء بن حَيْوَة الكِندي أحد علماء الإسلام، فابتدأ ذلك سنة ست وستين وكان الفراغ من ذلك في سنة ثلاث وسبعين.
كان عمر أول من صلى فيه من المسلمين وجعل له حرمة المساجد.
ولهذا فتسمية ذلك المكان بالمسجد الأقصى في القرآن تسمية قرآنية اعتبر فيها ما كان عليه من قبل لأن، حكم المسجدية لا ينقطع عن أرض المسجد.
فالتسمية باعتبار ما كان، وهي إشارة خفية إلى أنه سيكون مسجدًا بأكمل حقيقة المساجد.
واستقبله المسلمون في الصلاة من وقت وجوبها المقارن ليلة الإسراء إلى ما بعد الهجرة بستة عشر شهرًا.
ثم نسخ استقباله وصارت الكعبة هي القبلة الإسلامية.
وقد رأيت أن سائحًا نصرانيًا اسمه اركولف زار القدس سنة 670 م، أي بعد خلافة عمر بأربع وثلاثين سنة، وزعم أنه رأى مسجدًا بناه عمر على شكل مربع من ألواح وجذوع أشجار ضخمة وأنه يسع نحو ثلاثة آلاف.
والظاهر أن نسبة المسجد الأقصى إلى عمر بن الخطاب وهَم من أوهام النصارى اختلط عليهم كشف عمر موضع المسجد فظنوه بناءً.
وإذا صدق اركولف فيما ذكر من أنه رأى مكانًا مربعًا من ألواح وعمد أشجار كان ذلك شيئًا أحدثه مسلمو البلاد لصيانة ذلك المكان عن الامتهان.
وقوله: {الذي باركنا حوله} صفة للمسجد الأقصى.
وجيء في الصفة بالموصولية لقصد تشهير الموصوف بمضمون الصلة حتى كأن الموصوف مشتهر بالصلة عند السامعين.
والمقصود إفادة أنه مبارك حوله.
وصيغة المفاعلة هنا للمبالغة في تكثير الفعل، مثل عافاك الله.
والبركة: نماء الخير والفضل في الدنيا والآخرة بوفرة الثواب للمصلين فيه وبإجابة دعاء الداعين فيه.
وقد تقدم ذكر البركة عند قوله تعالى: {مباركًا وهدى للعالمين} في [آل عمران: 96].
وقد وصف المسجد الحرام بمثل هذا في قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدىً للعالمين} [آل عمران: 96].
ووجه الاقتصار على وصف المسجد الأقصى في هذه الآية بذكر هذا التبريك أن شهرة المسجد الحرام بالبركة وبكونه مقام إبراهيم معلومة للعرب؛ وأما المسجد الأقصى فقد تناسى الناس ذلك كله، فالعرب لا علم لهم به والنصارى عفوا أثره من كراهيتهم لليهود، واليهود قد ابتعدوا عنه وأيسوا من عوده إليهم، فاحتيج إلى الإعلام ببركته.
وحولَ يدل على مكان قريب من مكان اسم ما أضيف حولَ إليه.
وكونُ البركة حولَه كنايةٌ عن حصول البركة فيه بالأوْلى، لأنها إذا حصلت حوله فقد تجاوزت ما فيه؛ ففيه لطيفة التلازم، ولطيفة فحوَى الخطاب، ولطيفة المبالغة بالتكثير.
وقريب منه قول زياد الأعجم:
إنّ السماحةَ والمروءة والندى ** في قبةٍ ضُربت على ابن الحشرج

ولكلمة {حوله} في هذه الآية من حسن الموقع ما ليس لكلمة في في بيت زياد، ذلك أن ظرفية في أعم.
فقوله: في قبة كناية عن كونها في ساكن القبة لكن لا تفيد انتشارها وتجاوزها منه إلى ما حوله.
وأسباب بركة المسجد الأقصى كثيرة كما أشارت إليه كلمة {حوله}.
منها أن واضعه إبراهيم عليه السلام، ومنها ما لحقه من البركة بمن صلى به من الأنبياء من داوود وسليمان ومن بعدهما من أنبياء بني إسرائيل، ثم بحلول الرسول عيسى عليه السلام وإعلانه الدعوة إلى الله فيه وفيما حوله، ومنها بركة من دُفن حوله من الأنبياء، فقد ثبت أن قبري داوود وسليمان حول المسجد الأقصى.
وأعظم تلك البركات حلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذلك الحلول الخارق للعادة، وصلاته فيه بالأنبياء كلهم.
وقوله: {لنريه من آياتنا} تعليل الإسراء بإرادة إراءة الآيات الربانية، تعليلٌ ببعض الحِكَم التي لأجلها منح الله نبيئه منحة الإسراء، فإن للإسراء حِكمًا جمة تتضح من حديث الإسراء المروي في الصحيح.
وأهمها وأجمعها إراءته من آيات الله تعالى ودلائل قدرته ورحمته، أي لنريه من الآيات فيخبرهم بما سألوه عن وصف المسجد الأقصى.
ولام التعليل لا تفيد حصر الغرض من متعلقها في مدخولها.
وإنما اقتُصر في التعليل على إراءة الآيات لأن تلك العلة أعلق بتكريم المُسرَى به والعناية بشأنه، لأن إراءة الآيات تزيد يقين الرائي بوجودها الحاصل من قبل الرؤية.
قال تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} [الأنعام: 75].
فإن فطرة الله جعلت إدراك المحسوسات أثبت من إدراك المدلولات البرهانية.
قال تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260]، ولذلك لم يقل الله بعد هذا التعليل أو لم يطمئن قلبك، لأن اطمئنان القلب مُتَّسِعُ المدى لا حد له فقد أنطق الله إبراهيم عن حكمة نبوءة، وقد بادر محمدًا بإراءة الآيات قبل أن يسأله إياها توفيرًا في الفضل.
قال علي بن حزم الظاهري وأجاد:
ولكن للعيان لطيفُ معنى ** له سأل المعايَنة الكليمُ

واعلم أن تقوية يقين الأنبياء من الحكم الإلهية لأنهم بمقدار قوة اليقين يزيدون ارتقاء على درجة مستوى البشر والتحاقًا بعلوم عالم الحقائق ومساواة في هذا المضمار لمراتب الملائكة.
وفي تغيير الأسلوب من الغيبة التي في اسم الموصول وضميريه إلى التكلم في قوله: باركنا..
ولنُريه من آياتنا سلوكٌ لطريقة الالتفات المتبعة كثيرًا في كلام البلغاء.
وقد مضى الكلام على ذلك في قوله تعالى: {إياك نعبد} في [الفاتحة: 5].
والالتفات هنا امتاز بلطائف:
منها: أنه لما استُحضرت الذات العلية بجملة التسبيح وجملة الموصولية صار مقام الغيبة مقام مشاهدة فناسب أن يغير الإضمار إلى ضمائر المشاهدة وهو مقام التكلم.
ومنها: الإيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام عند حلوله بالمسجد الأقصى قد انتقل من مقام الاستدلال على عالم الغيب إلى مقام مصيره في عالم المشاهدة.
ومنها: التوطئة والتمهيد إلى محمل معاد الضمير في قوله: {إنه هو السميع البصير}، فيتبادر عود ذلك الضمير إلى غير من عاد إليه ضمير {نريه} لأن الشأن تناسق الضمائر، ولأن العود إلى الالتفات بالقرب ليس من الأحسن.
فقوله: {إنه هو السميع البصير} الأظهرُ أن الضميرين عائدان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقاله بعض المفسرين، واستقرَبَه الطيبي، ولكن جمهرة المفسرين على أنه عائد إلى الله تعالى.
ولعل احتماله للمعنيين مقصود.
وقد تجيء الآيات محتملة عدّةَ معاننٍ.
واحتمالها مقصود تكثيرًا لمعاني القرآن، ليأخذ كل منه على مقدار فهمه كما ذكرنا في المقدمة التاسعة.
وأياما كان فموقع إنّ التوكيد والتعليل كما يؤذن به فصل الجملة عما قبلها.
وهي إما تعليل لإسناد فعل {نريه} إلى فاعله؛ وإما تعليل لتعليقه بمفعوله، فيفيد أن تلك الإراءة من باب الحكمة، وهي إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، فهو من إيتاء الحكمة من هو أهلها.
والتعليل على اعتبار مرجع الضمير إلى النبي أوقع، إذ لا حاجة إلى تعليل إسناد فعل الله تعالى لأنه محقق معلوم.
وإنما المحتاج للتعليل هو إعطاء تلك الإراءة العجيبة لمن شك المشركون في حصولها له ومن يحسبون أنه لا يطيقها مثله.
على أن الجملة مشتملة على صيغة قصر بتعريف المسند باللام وبضمير الفصل قصرًا مؤكدًا، وهو قصر موصوف على صفة قصرًا إضافيًا للقلب، أي هو المدرك لما سمعه وأبصرهُ لا الكاذِبُ ولا المتوهمُ كما زعم المشركون.
وهذا القصر يؤيد عود الضمير إلى النبي لأنه المناسب للرد.
ولا ينازع المشركون في أن الله سميع وبصير إلا على تأويل ذلك بأنه المُسمع والمبصِر لرسوله الذي كذبتموه، فيؤول إلى تنزيه الرسول عن الكذب والتوهم.
ثم إن الصفتين على تقدير كونهما للنبيء هما على أصل اشتقاقهما للمبالغة في قوة سمعه وبصره وقبولهما لتلقي تلك المشاهدات المدهشة، على حد قوله تعالى: {ما زاغ البصر وما طغى} [النجم: 17]، وقوله: {أفتمارونه على ما يرى} [النجم: 12].
وأما على تقدير كونهما صفتين لله تعالى فالمناسب أن تؤولا بمعنى المسمع المبصر، أي القادر على إسماع عبده وإبصاره، كما في قول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع

أي المُسمع.
وقد اختلف السلف في الإسراء أكان بجسد رسول الله من مكة إلى بيت المقدس أم كان بروحه في رؤيا هي مشاهدة رُوحانية كاملة ورؤيا الأنبياء حق.
والجمهور قالوا: هو إسراء بالجسد في اليقظة، وقالت عائشة ومعاوية والحسن البصري وابن إسحاق رضي الله عنهم أنه إسراء بروحه في المنام ورؤيا الأنبياء وحي.
واستدل الجمهور بأن الامتنان في الآية وتكذيبَ قريش بذلك دليلان على أنه ما كان الإخبار به إلا على أنه بالجسد.
واتفق الجميع على أن قريشًا استوصفوا من النبي علامات في بيت المقدس وفي طريقه فوصفها لهم كما هي، ووصف لهم عيرًا لقريش قافلة في طريق معين ويوم معين فوجدوه كما وصف لهم.
ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما أنا في المسجد الحرام بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل» إلى آخر الحديث.
وهذا أصح وأوضح مما روي في حديث آخر أن الإسراء كان من بيته أو كان من بيت أم هاني بنت أبي طالب أو من شعب أبي طالب.
والتحقيق حمل ذلك على أنه إسراء آخر، وهو الوارد في حديث المعراج إلى السماوات وهو غير المراد في هذه الآية.
فللنبيء صلى الله عليه وسلم كرامتان: أولاهما الإسراء وهو المذكور هنا، والأخرى المعراج وهو المذكور في حديث الصحيحين مطولًا وأحاديث غيرِه.
وقد قيل: إنه هو المشار إليه في سورة النجم. اهـ.